الحقيقة مثل الأسد لا تحتاج أن تدافع عنها، أطلقها فقط وهي سوف تدافع عن نفسها
الْحَقُّ هُوَ الْقِيمَةُ الْمُطْلقَةُ التي اختار الله أن يصف بها ذاته، ولأنها قيمة مطلقة فهي غير محدودة لذلك عجز الإنسان عن إدراكها، وأمام هذا العجز البشري وضع الله على عاتقه إيصال محتواها للإنسان من خلال تجسد الكلمة، ففي حديث السيد المسيح الوادعي لتلاميذه يقول عن ذاته «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.» (يو ١٤: ٦) فوضع السيد كلمة الْحَقُّ بين كلمتين احدهما وسيلة والأخرى غاية وهدف، وأصبح على كل من يبحث عنها ليدركها أن يسلك بالوسيلة (الطريق) في رحلة البحث التي تؤدي إلى الغاية (الحياة) والْحَقُّ بينهما يقود الإنسان في الطريق ويعطي استنارة للحياة، فلا يمكن للإنسان بأي حال أن يدرك الْحَقُّ بدون أن يسلك طريق يسوع ويحيا على مثال حياته، كما نفهم أيضا من حوار الرب يسوع مع بيلاطس حيث يقول “قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي” (يو ١٨: ٣٧)، كانت هذه تلك الكلمات التي واجهها بيلاطس خرجت من فم هذا الإنسان العجيب الواقف أمامه في انتظار حكم بالموت هي التي دفعته أن يسأله «مَا هُوَ الْحَقُّ؟»، فهذا السؤال هو بمثابة محور كل معرفة الإنسان وتاج مجدها واستنارتها، في رحلة البحث عن الحق التي امتلكت وعي الإنسان قديما وحديثا الذي يسعي جاهدا بكل قدرته لأن يعرف الحق، فأنا وأنت لا نريد سوى أن نعرف الحق!
وقف السيد المسيح أمام بيلاطس كمذنب لأنه كان يشهد للحق، بينما كانت حُجة من أسلموه إليه هي الدفاع عن الْحَقُّ أيضا!!!! وبين هذا وهؤلاء هوة شاسعة عميقة، على طرف منها يقف الواحد صامتا كمذنب بينما الجماعة على الطرف الآخر في غوغائية تصرخ! وما أحط الوسائل التي استخدموها فيما كانوا يظنوه دفاعا عن الْحَقِّ، سواء في الصدام الخفي أو العلني مع الْحَقُّ، أو مع كل من يشهد للْحَقِّ، فما أكثر المؤامرات وكلمات الكذب والتدليس وتزييف الحقائق والاحتقار والإهانة التي جرت من على أفواههم في تأليب الشعب ضد يسوع.. فتارة يقولون «أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ.» وتارة أخري «أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟» ...الأمر الذي يدعو للتعجب هو أن تجد من يهين الآخرين ويشتمهم في تبجح ويتهمهم بما ليس فيهم، بل وقد يستخدم طرقا ملتوية يبتعد فيها عن أبسط القيم سواء الإنسانية أو المسيحية، ثم يظن إنه يفعل حسنا دفاعا عن الحق!!!
ولكن برغم تلك المحاولات المضنية لمن ظنوا أنهم جنود الله ووكلائه في الدفاع عن الْحقِّ، محاولين الظهور ببراءة كمثل من هم أطهار محافظين على الصورة الخارجية المتمثلة في المظهر الأمين على المعتقدات والعوائد التي سلمها الآباء بينما في الخفاء يتبعون تدابير ملتوية غير أخلاقية لا تليق بأولاد الله. ففي محاولات عابثة لم يكللها النجاح حتي في عيني الحاكم الروماني الذي لا يفقه شيئا في العقيدة أو الشريعة، لأن الخبرة العالمية التي اكتسبها بيلاطس في الأروقة الإمبراطورية أوجدت لديه تفسيرا واحدا وهو أن اليهود ”كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً “و تأكد له هذا التفسير حتما ولا سيما حينما تلاقى مع الحمل الصامت البريء.
تُري هل كانوا يدافعون عن الْحَقِّ؟!
ما أكثر المقاومون للحق تحت مظلة الدفاع عنه وحمايته، يظنون أنهم في حالة دفاع عن الحق وهم مبتعدين عنه بقلوبهم بعيداً، فيظهر الخارج حسنا بينما الداخل يخفي غيرة، حسد، عداوة، سلطوية، ذات منتفخة، قلب بلا محبة، فضيلة مظهرية، رياء خادع تلك التي تكلم عنها بولس الرسول في رسالته إلى غلاطية الأصحاح الخامس عدد ١٤–٢٥ … فلو كانت الغاية حسنة لكان ينبغي أن تماثلها وسيلة الوصول إليها أيضا فكلمات الله واضحة كالشمس فمن فضلة القلب يتكلم الفم ومن الثمار تُعرف الشجرة.
لكن الله لا يترك نفسه بلا شاهد فهو يجعل دائما صوتا للحق في وسط الجماعة لعلها تسمع له ألم يكن نيقوديموس واحدا من الجماعة ألم يقل «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟» (يو ٧: ٥١) هكذا صار هو الصوت الذي يدافع عن الحق ولكنه كان خافتا جدا أمام ضجيج الجماعة وعنادها، على العكس تماما في في حادثة جلد الرسل حينما تكلم غمالائيل برجاحة رأي قائلا ”وَالآنَ أَقُولُ لَكُمْ: تَنَحَّوْا عَنْ هَؤُلاَءِ النَّاسِ وَاتْرُكُوهُمْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيُ أَوْ هَذَا الْعَمَلُ مِنَ النَّاسِ فَسَوْفَ يَنْتَقِضُ وَإِنْ كَانَ مِنَ اللهِ فَلاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْقُضُوهُ لِئَلاَّ تُوجَدُوا مُحَارِبِينَ لِلَّهِ أَيْضاً».“ (أع ٥: ٣٨، ٣٩). فسمعوا له إلى حين.
ولكن ليعلم كل واحد أن الحق ثابت راسخ لا يتزعزع، واحد غير مُنقسم في طريقته وحياته في هدفه ونتيجته لا يحتاج أحد يدافع عنه فهو لا يُقيد. ربما قبل أن ينجرف الإنسان وينساق وراء فكرة ما صادرة من ذاته أو يلقيها إليه أحد ما أو يسير تابعا في دائرة شخص ما فبالحري عليه أن يتوقف لبرهة ويسأل نفسه هل أنا فعلا في جانب الْحَقِّ؟ أم انحرفت عنه بعيدا سواء فكرا أم فعلا، ولعل هذا هو سبب رد السيد المسيح الغير متوقع تماما في محاكمة رسمية أمام حاكم روماني مثل بيلاطس البنطي حينما سأله هذا الأخير مستفسرا عن كونه ملك اليهود أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟» (يو ١٨: ٣٤)، فيتضح من هذه الكلمات أن هدف السيد المسيح هو أن يضع بيلاطس في مواجهة مع نفسه ويحثه على اختبار فكره الخاص.
كان شاول الطرسوسي هكذا أيضا منساقاً خلف فكرة دفاعه عن الْحَقِّ، وتابعا لأشخاص غير أمناء ربما استغلوا فيه حماسته وغيرته ولكن المحصلة هي أنه انساق بعيدا عن الْحَقِّ فيصفه الكتاب "فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً“، ولكن بعدما انفتحت عيناه وتلاقي مع الكلمة عرف ما هو الْحَقِّ أو بالحري مَن هو؟ تجدد ذهنه واستنارت كلماته وتقدست أفعاله فتحول إلى بولس الرسول الذي يتذكر أيامه الأولى في حديث مُنفتح مع تلميذه وابنه الروحي تيموثاوس قائلا في وصف سيرته الأولى ”أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ.“ (١تي ١: ١٣)، لاحظ أنه لم يصف نفسه بالتجديف والافتراء فقط ولكن أيضا بالجهل وعدم الإيمان.
قد يكون التبرير الذهني حاضرا لدى البعض لتفسير سلوك أو فعل ما بأنهم يدافعون عن الحق، فاذا توهمت في نفسك حماية الإيمان الأرثوذوكسي وظننت في ذاتك القدرة على دحض البدع والهرطقات ونصبت ذاتك درعا للكنيسة ظنا منك أنك تتبع المنهج السكندري وتسير على خطى ديديموس الضرير وأثناسيوس الرسولي وكيرلس الكبير أو باقي آباء الكنيسة، رجاء من فضلك تحلى بالموضوعية في طرحك لموضوعاتك وبآداب الحديث في كلماتك، فالشخصنة والتشهير غريبة جدا عن منهج هؤلاء الآباء السالكين بالروح وليس حسب الجسد، ربما يكون معلوما للجميع مصطلح "ضد العالم" الذي ارتبط بحياة البابا أثناسيوس، هذا المصطلح بدأ مع القديس أثناسيوس منذ حداثته كمنهج حياة حينما ترهب في برية القديس أنطونيوس ورفض كل مسرات العالم بشهواته المتنوعة فقد كان ضدا للعالم في داخليات حياته في صلواته ونسكه وطهارته وعفة لسانه وفي احتماله وصبره أيضا، حتي استنارت روحه بفعل الروح القدس فأصبح ضدا للعالم كله حينما كاد أن يكون أريوسيا. بينما يروي عن القديس ديديموس الضرير أنه استطاع أن يهدي إلى الايمان كثير من الفلاسفة الوثنيين ليس بسبب علمه وبلاغته فقط ولكن بأسلوبه المهذب وأدبه الجَمّ في الحوار معهم.
أخيرا ليس من الْحَقِّ في شيء أن تتعدي على الأخرين وتتهمهم بالباطل، وليس من الْحَقِّ أن تثير الشكوك والفرقة والانقسام في جسد المسيح الذي هو الكنيسة فقد قال السيد المسيح ”مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ على وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ.“ (لو١١: ٢٣).
الحق دائما ما يتسم بالقوة والاستقامة والشجاعة، فالحق هو الصوت الصارخ في برية العالم القاحلة ينادي بالتوبة. إذا أردت أن تتبع الْحَقَّ وتدركه فكن شاهدا له بحياتك مثل يسوع، لأنه أما أن تصير شاهدا للْحَقِّ أو تصرخ مع الآخرين «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!».